وبين قرني الكبر ورأس بطلان العمل؛ يصارع المسلم طريقه ومجاهدته إلى الله، ناشدًا التوفيق، طالبا عونه في البعد عن الخذلان، معترك صعب طويل، وما ثمة إلى باب الرب الرحيم يفتحه لعبد أطال الطرق ولم يمل:
- من صور الخذلان أن يتعالى صاحب العلم على الناس بعلمه، ويظن أنه على شيء، والمسكين غفل أن صاحب العلم بحق هو المتواضع بحق مع الحق ومع الناس، والمتعالي لا يليق له إلا الوصف بالجهل.
- ومن صور الخذلان للعبد أن ينشط في الواجبات الفرعية، ويكسل ويتغافل في الواجبات الأولية الرئيسة. وعلى سبيل ضرب المثال؛ ألم يقل الله تعالى في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} إهمال أهل المرء من زوجة وأولاد ووالدين ونحوهما، هل هو توفيق من الله أم خذلان؟ ينشط المسلم مع إخوانه في الله، وبيته تكثر فيه عناكب الشر بكل خيوطها، ثم يقول: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}!!
- ومن مظاهر الخذلان للمسلم أن يكون هاجرًا للقرآن الكريم، لا يحفظ، لا يرتل، لا يفهم، لا يشتاق، لا يتزود، لا يعرف الختمات تلو الختمات، ولا يسعى أن يكون القرآن ربيعا لقلبه، ولا شفاء لصدره، ولا جلاء لهمه وغمه، ويظل يردد: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}!
- ومن صور الخذلان ألا يوفق المرء لصحبة صالحه تعينه على أمر دينه وتقوية سيره إلى الله. بل أحيانا يكون حوله الكثير من الإخوة والأخوات في الله -كلٌ بحسبه- ولكنه يشعر بالغربة بينهم؛ نظرا لاختلاف النوازع والأهداف، وطبيعة الفكر والحماسة للعمل لدين الله عز وجل، وقد يكون خذلانه مركبًا، فلا تجده في أخلاقه وتعامله ومعاشرته إلا كما يكون السوقة من الناس وأراذل البشر والعياذ بالله.
- ومن صور الخذلان انعدام النصح بين المرء ومن يعاشر. فتراه متعودًا عليهم واعتادوا هم عليه. يكثر بينهم حديث العامة وأسعار الأسواق والقيل والقال، وتغض الأطراف عن منكر بدأ يدب فيهم، أو منزلة بدأت تتسلل إليهم لا تليق بحاملي لواء الصراط المستقيم، أو آفات اللعب والضحك والكسل وطراوة الهمم ونداوتها.
ونسوا كلهم قول النبي صلى الله عليهم وسلم: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض". ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}.
ونلحظ تعبير النبي عليه الصلاة والسلام: "إن أول ما دخل النقص" سماه نقصًا. وكل ما يحيد عن الصراط هو نقص ولو كان مبالغة في الكسل، أو برود في همة، وإن هذا النقص كبر أو صغر أو سكت عنه يكون العقاب: "ضرب الله قلوب بعضهم ببعض" مختلطة، لا تعرف منها شيئا، فكيف يراد من هذه القلوب أن تكون آمرة بمعروف ناهية عن منكر؟ بل وحاملة للواء الدعوة وتبشير الناس؟
- ومن صور الخذلان أن ينسلخ شهر رمضان على العبد ولم يغفر له؛ فعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحضروا المنبر فأحضرنا فلما ارتقى درجة قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثانية، قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: آمين، فلما نزل قلنا يا رسول الله، لقد سمعنا منك اليوم شيئًا ما كنا نسمعه، قال صلى الله عليه وسلم: إن جبريل عرض لي فقال: بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له، فقلت: آمين، فلما رقيت الثانية قال: بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت: آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بعد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. قلت: آمين" حديث متواتر. إن من الخذلان إخواني أخواتي أن ينسلخ عنا الشهر ولم تدمع منا العيون، أو ترجف منا القلوب خوفًا من نار جهنم، وإن من الخذلان أن يمر الشهر الكريم ولا يقدر أحدنا على ختم القرآن لمرة واحدة!، أو تزيد نوافلنا لله رب العالمين.
هذه لقطات سريعة، ولكل منا صوره التي يلتقطها بعدسته الإيمانية. إن الثبات على الصراط المستقيم ليس بالأمر الهين؛ إلا على من يسره الله عليه، ومما يعين على هذا التذكر -مهما انغمست الأرجل في بعض أوحال الدنيا- مدارسة وتذكر أحوال من سبقنا في هذا الطريق، ولقوا ربهم وهم على بينة من ربهم.
هذا التذكر يدفع المسلم دفعًا إلى المسير وبقوة؛ مهما كان غريبا بين أصحابه المقربين منه، فإنه واجد بحول الله ذلك الطعم الرباني بسير أهل الصلاح: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً}. أولئك لم يكن للكبر عندهم مكانًا، ولا للرياء فيهم منزلا، وكانوا هداة مهتدين.