إن الصراط المستقيم الذي نطلب الهداية له كل مرة؛ يحتاج إلى دقة في السير عليه، ووضوح في السير إليه، وتوفيق للاستمرار فيه. ويطلب الحذر مما على جانبي الصراط. فعلى جانبه الأول يكون الضلال والإضلال، وعلى جانبه الآخر ثمة الغضب من الله تعالى، والمسلم يسير بين هذا وهذا على صراط مستقيم.
يقول الإمام ابن القيم في مدارج السالكين، انقسم الناس بهذه الآية إلى ثلاثة أقسام:
1. العالم بالحق العامل به: "وهو المنعم عليه الذي يزكي نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح".
2. العالم بالحق المتبع لهواه: "وهو المغضوب عليه؛ لأنه علم بالحق وحاد عنه".
3. الجاهل بالحق: "وهو الضال؛ لأنه لم يتبع الهدي المستقيم في معرفة الحق وضده".
وفي كل صلاة يعيش المسلم هذه المعاني مجتمعة في هذه الآيات من سورة الفاتحة، ويكررها مرات ومرات، وتتوارد في نفسه صورٌ كثيرة لأهل الغضب ولأصحاب الضلال؛ صورٌ من أهل الأهواء، وصورٌ من أهل الغباء وسوء العمل، صورٌ من أهل الجهالة والبعد عن الصراط المستقيم.
إن عيش المسلم وهو ينشد ربه هذه المعاني، ويخشى أن يقع في ضدها من صور الغضب والضلال، هذا الخوف والوجل، يكون مصاحبًا للمرء منا طوال حياته، تارة يوفقه الله تعالى، وتارة يُخذل، بحسب قربه وبعده عن الصراط المستقيم، وحسن السير إليه وعليه.
وكما قال العارفون: "الأمر كله بين التوفيق والخذلان"، وهذا صحيح، فكلما ارتكس العبد في الغفلة والمعاصي وفتات الحياة وهام فيها، كلما كان رداء الخذلان له لباسًا، وحين يقترب وينصب ويرغب، يجد التوفيق له سجية وعادة، وخير اللباس التقوى.
وأبدع الإمام ابن القيم -رحمه الله- حين استخرج أكبر وأخطر مرضين يصيبان العبد في سيره إلى الله، وهما نتاج من الغضب والضلال، وهما مرضا "الكبر، والرياء"، وقال بأنهما من أخطر الأمراض، ومنهما تولد الأمراض الأخرى في قلب العبد.
والكبر: بطر الحق وغمط الناس، كما بينه الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، ورد الحق والتغاضي عنه، واحتقار الناس وعدم إنزالهم منازلهم، هما قرنا هذا المرض الخطير الفتاك، الذي يحرم صاحبه من دخول الجنة بوزن حبة خردل منه!
والرياء: العمل لغير الله بشكل عام، وهو رأس بطلان الأعمال، فتارة يكون بظاهر حسن من العمل وباطن سيئ، وتارة يكون بتملق واستعراض أمام العبيد!، وتارة يكون لجاه أو طلب منزلة في عيون وقلوب من أصلهم مني يمنى